ماهية الصلة بين الماسونية والصهيونية واليهودية

ماهية الصلة بين الماسونية والصهيونية واليهودية
بليل عبدالكريم

ظهر عبر الأيَّام الكثيرُ من الحركات والمنظَّمات الهدامة، غير أنَّ منظَّمتين ملأتا الدُّنيا صخبًا، وما نطق بمصطلح المنظَّمات السرّيَّة إلاَّ وكانتا على رأس القائمة، وإن رام أحدٌ متابعة مرتكِب شرِّ الدُّنيا أجمعه، ولَم يعثر على متهم ألصقت بهما خطايا الكون، وتحت اسم المتهم: الفاعل مجهول.

لعلَّ القارئ لن يجهد ذهنه في معرفتِهما، الماسونيَّة العالميَّة والصهيونيَّة، الشَّيطان الخفي، والمتَّهم من كلا الطَّرفين المتصارعين، فأهل الصَّلاح يرمون أهل الطَّلاح بالوقوع في شباكهما، وأهل الطَّلاح يقذفون أهل الصَّلاح بأنَّ المنظَّمة تعبث بهم.

فقد هيْمن على الخطاب التَّحليلي العربي نموذج معلوماتي موضوعي متلقٍّ وثائقي، فتتراكَم المعلومات والحقائق والأفكار والتَّصريحات والنصوص المقدَّسة، وتُرصّ رصًّا، بغضِّ النَّظر عن مدى أهميَّتها، ومدى مركزيَّتها ومقدرتها التَّفسيريَّة، وهي عادةً حقائقُ لا يربطُها رابط، ولا تَخضع لأيِّ شكلٍ من أشْكال التَّحليل المتعمِّق؛ إذ يأخذ التَّحليل شكلَ تَحليل مضمون بدائي جدًّا، يلجأ للتَّصنيف السَّطحي، بناءً على عدد الكلِمات وتكرار الجُمل والموضوعات، وذلك في إطار الأطْروحات العامَّة المسيْطِرة.

وبالتالي، تُجمَّد الظواهر والحقائق، وتُعزَل عن بعضها البعض، وتُجرَّد من تاريخها وسياقها، ويكون الرصد رصدًا لحقائق متفرقة، لا لأنْماط متكررة، ومن ثمَّ يُمكن للباحث أن يفرض عليْها أي معنًى عام أو خاص يَشاء، وإن قام بفرض نمط ما عليها فهو أطروحة اختزاليَّة بسيطة.

ويأخذ البحث العلمي شكل اختيار الحقائق، الَّتي يبرْهِن بها الباحث على البدهيَّة الاختِزاليَّة الأولى، الَّتي بدأ بها (اليهود مصدر الشّر – الصهْيونية شكل من أشكال الإمبريالية)، بدلاً من أن يكون عمليَّة اكتِشاف واختبار للأطْروحات القائمة، وقد أصبح التَّصوُّر العام الآن في العقْل العربي أنَّ التَّأليف هو التَّوثيق بغضِّ النَّظر عن المقدرة التَّفسيريَّة للمسلمة التي تمَّ توثيقها، وأصبح معيار الجودة والتميُّز هو كمّ المعلومات أو الحقائق التي أتى بها المؤلِّف، وكم المراجع الَّتي أدرجها في ثبت المراجع، وتاريخ صدورِها، فإن كانت حديثة كان هذا دليلاً قاطعًا على مدى جدّيَّة الباحث وإبداعه[1].

القوَّة الخفيَّة، المتهم المجهول:
المنظمتان هما القوة الخفية، والغول العملاق، والفزَّاعة التي تلصق بها كل الخطايا، فتخلف الأمة الإسلامية بسببهما! وإن عثرت دابَّة في العراق فبسببهما! وإن رسب مرشَّح إصلاحي في الانتخاب فبسببهما! وإن ظهرت فرق وطوائف منحرِفة فبسببهما! وخلاصة الحكاية فما بنا من شرٍّ فمنهما.

لكأنِّي بمَن حوْلنا، من الملائكة، ويكأنَّ الأمَّة الإسلاميَّة لا تلِدُ نساؤُها غيرَ أولي الألباب، ويكأنَّ أهل النِّفاق ليْسوا منَّا، بل مَن قارف من أهلنا المكر ببلادنا، وشَراها بثمَن بَخس دولارات عديدة، ليس منا، وإن كان بنسبه فيحول المتهم إلى ضحيَّة: تمَّ استِغْفاله – استغلاله – استغباؤه، علل عليلة، بها قلَّة بصيرة، فما خلتْ أرض قطّ من كلابٍ متشرِّدة ولا من حشرات طفيليَّة، بل ما خلت حتَّى الدَّعوات الإصلاحيَّة، بل دعوات الأنبِياء والرسل، ما خلَتْ من قومٍ يَحملون همَّها، وآخرين تَحمل الدَّعوة همَّهم، وإنْ مَرَدَ أهل النفاق بين ظهرانَي خير القرون، وخير البشر بعد الأنبياء والرسل، ألاَّ يمرقون من بيننا؟!

لا أبغي في المقال بسْطَ الكلام حول الماسونيَّة والصهْيونيَّة، وتاريخ كلِّ واحدة ومعتقداتِهما ومؤسَّساتهما وكبار الأعْضاء فيهما ومراتبها، وإنِّي أروم توضيحَ بعض اللَّبس في فهم المنظَّمتَين، والعلاقة القائمة بينهما، وأنَّ هذا الخلل داعيه النَّظرة الاختزاليَّة للآخر، وعقدة تبرِئة الذِّمَّة، وزاد الطِّين بلة تهويل دورهما، ولا أحسبه إلاَّ مركب نقص، واستِصْغار للنَّفس، واحتِقار للإرادة، والدَّوابّ لا تُمتطى إلاَّ لأنَّها راكعة ذلولٌ لراكبها، فالله تعالى لا يُغيِّر ما بنا من تخلُّف وهوان حتَّى نغير ما بأنفسنا، ومقتضى القاعدة القرآنيَّة للسنن الكونيَّة الربَّانية، أنَّ العامل الخارجي لا يتفاعل خارج مُحيطِه إلاَّ بقابليَّة من المحيط الدَّخيل عليه، فلو لم تكُن أرضُنا فاقدةً للمناعة الفكريَّة والعقديَّة، خاوية من المضاد، لَمَا اقتضى الوضْع ملءَ الفراغ، ولَما كان لكلِّ ساقطة لاقطة؛ إذ الأرض الطيِّبة ينبت نباتُها بإذن ربِّها، يؤتي أكله وزيادة، والَّتي خبثت يخرج نبتها نكدًا.

غير أنَّ هذه الحال النفسيَّة أوردت سلوكيات؛ أفرزتْ أفكارًا سمجة، فترى الكاتب منهم يَمزج الماسونيَّة في الصهْيونيَّة، ويخلط الثَّانية في الأولى، بل تَجد في وصفه لبعْض المؤامرات: وهذه من مؤامراة الماسونيَّة الصهْيونية، لكأنَّها منظمة واحدة! وذلك دون سند إلاَّ التَّداعي عليهم، وإن كان له بعض ما يستأنس به من الأحْداث الرَّابطة بينهما، بل لو فرضْنا المحاكم القانونيَّة لما نطق ببنت شفة؛ إذ كلامهم في الغالب لا يعْدو التَّخمينات، ودليلهم في المجْمل لا يتجاوز الدَّليل “قالوا له” كأني به شاهد لم يعِ شيئًا.

ومنهج الدراسات العربية هذه، يقابله الدِّراسات الغربية، فهي ترى اليهود باعتِبارهم إمَّا ملائكة رحيمة أو شياطين رجيمة، إمَّا باعتبارهم مركز الكون فلا يُمكن للتَّاريخ البشَري التَّحرُّك بدونِهم أو باعتبارهم مجرَّد أداة، أو شيء هامشي لا أهمّيَّة له في ذاته على الإطلاق.

ومن خلال هذا النموذج، تمَّ استِبْعاد كمّ كبير من المعلومات أو تمَّ تَهْميشه، كشيْءٍ ليْست له أهمّيَّة كبيرة.

فعداء بلفور لليهود هو حقيقة تُذكر ثمَّ يطْويها النسيان باعتِبارها انحرافًا وشذوذًا، وصهيونيَّة غير اليهود الَّتي تمتد من عصر النَّهضة في الغرب حتَّى الوقت الحاضر والَّتي تسبق صهيونيَّة اليهود، والَّتي اكتملت فيها ملامح الفِكْر الصِّهيوني، تُذْكَر هي الأُخرى بشكل وثائقي، وكأنَّها طُرفة دون أن تُعطَى المركزية التفسيريَّة التي تستحقُّها.

ذلك لأنَّ النموذج التَّفسيري الغربي يرى أنَّ الصهْيونيَّة هي حركة يهوديَّة، وأنَّها تنبع من صفحات العهْد القديم أو تطلُّعات اليهود الأزليَّة للعودة إلى صهْيون.

بل يكيلون لها مؤامرات، لا يدْري أحدٌ مرتَكِبها، بل حتَّى إنَّك تجدهم يتَّهمونها بأُمور متناقضة، فهِي الَّتي أنشأتِ الثَّورة البلشفية الشيوعيَّة الاشتِراكيَّة، وهي الَّتي ابتكرت الليبيراليَّة الديمقراطيَّة الرأسماليَّة! فإن قلت بين الطَّرفين حرب فكريَّة وسياسيَّة وعسكريَّة؟ قالوا: تريدانِ الحروب، فإن قلت: هل لليهود مركب واحد يسيرهما معًا؟ قالوا: نعم! فحاصل القول كل الروس ومَن كان تحت إمرتهم، وكلّ العالم الغربي: مستغفل ومستغْبًى ومستغل من اليهود والشَّخصيَّة الغربيَّة بريئة وطيِّبة، إلاَّ أنَّ فيها سذاجة جعلت اليهود يقودها من رقابِها!

لو لَم تكُن التربة الأوربيَّة والأمريكيَّة صالحة لزِراعة أفكار الماسونية، أكانت تنتشِر وتتفشَّى فيهم؟

فالمجتمع الأمريكي ترْكيبته من مهاجرين لا نسب ولا أرض، فهو براغماتي محض؛ يبيع بثمن التُّراب حتى الأقرباء، أباد أمَّة كاملة ليقيم دولة، وقبل أن تطأ أقدام اليهود أرضه، أيعزُّ عليه أن يعيدها مع العرب؟

والإنجليز سياستُهم: الصَّديق مَن فيه مصلحة، وعداؤهم لليهود قديم؛ بل إنَّ من دواعي جمع اليهود في وطن التَّخفيف من الهجرة المتزايدة لليهود نحو إنجلترا.

والفرنسيون حرْفَتُهم سياسة الكذب، والمقال لا يسع الكلام حول ثقافة الغرب وأساليب إصدارهم للأحْكام على الآخرين، غير أنِّي أورد حادثة في القرن العشرين، والاحتلال الفرنسي باسط نفوذه على إفريقيا وأمريكا الوسطى، تمَّ استِعْباد وتَهجير أفارقة سود لأمريكا للبيع، وبقي بعد التِّجارة بهم عدد كبير منهم، فنقلوا للعمل بدون أجر لتجْفيف المستنقعات في أمريكا الوسطى، انتشرت الكوليرا بيْنهم لعدم الرعاية الصحّيَّة فهلكوا عن بكرة أبيهم، فقام الفرنسيون (المتحضِّرون) بشراء براميل من الخلِّ من شركة أمريكيَّة، ووضعوا بها جثث الأفارقة السود العبيد، وباعوها لمخابر التَّشريح في أوربَّا!

حتَّى موتهم لم يرحموهم فيه!

وهذا ليس ماضيًا ولَّى، كلاَّ والله، لو عاد بهم الزَّمان لعادوا.

علاقة الماسونيَّة بالصهيونيَّة:
لا بدَّ من فرْز الأمور بالتَّساؤُل كالآتي:
• هل الماسونيَّة والصهْيونيَّة منظَّمة واحدة؟
• هل يتشاطرانِ نفْس المعْتقدات والأهداف؟
• أيُّهما أنشأ الآخر إن ثبت الرَّابط بينهما؟
• أيهما يتحكَّم في الآخر، وأيهما الأقوى؟
• ما علاقتهما باليهود واليهوديَّة؟
• هل كلُّ يهودي ماسوني؟ أم كلُّ ماسوني يهودي؟
• هل كل يهودي صهيوني؟ أم كل صهيوني يهودي؟
• هل كل ماسوني هو صهيوني؟ أم كل صهيوني هو ماسوني؟

للإجابة؛ عليْنا الرجوع إلى تاريخ النشأة لكلا المنظَّمتين، والمحيط الفكري العامّ في الجو الذي نشأت فيه، وفي هذا إشكال عظيم، فالبعض ينساق حول خرافات ما قبل التَّاريخ، إذ هذه المنظَّمات ولارتباطها باليهوديَّة في نواحٍ تسلك إيديولوجيتها، المعبِّرة عن نفسيَّة اللَّقيط الذي يبحث له عن نسب، فسِمَة اليهود في غالب تجمعاتهم وأفكارهم ومنظماتهم، حتى في مؤسَّساتهم كجهاز الموساد والشاباك، أن يُعيدوا تاريخ التأسيس إلى عهد المملكة اليهوديَّة؛ أي ما قبل التاريخ، حتَّى الموساد قالوا إنَّه من عهد موسى – عليه السلام – وقد كان للرَّسول عملاء استخباريون!

لذا تَجد في الكلام عن تاريخ الماسونيَّة والصهيونيَّة ما يعرف بالمراحل أو الأطوار، فالطَّور الأوَّل – كالعادة – من زمَن ما قبل التَّاريخ أو بُعيد الميلاد، وهذا لا يَملك لا المدَّعي ولا الدَّاعي أدلَّة عنه، والطَّور الثَّاني وهو الموثق والمعتمد، هنا سنناقش باعتماد طورَي النشأة.

ماهيَّة الماسونيَّة:
في نشْأة الماسونيَّة، يُقال إنَّها نشأت في المرْحلة الأولى على يدِ الملك هيرودس اليهودي (ت 44م) بمساعدة مستشارَيه اليهوديَّيْنِ: حيرام أبيود: نائب الرَّئيس، موآب لامي: كاتم سرّ أوَّل.

وسمِّيت القوَّة الخفية، وهدفها التَّنكيل بالنَّصارى واغتيالهم وتشْريدهم، ومنْع دينهم من الانتِشار.

أمَّا الطَّور الثاني وهو الأكثر توثيقًا، في سنة 1717م بسكوتلندا؛ حيث أنشئ أوَّل محفل ماسوني، بعد اختراق فرسان المعبد الصَّليبيِّين لنقابة البنَّائين، إذْ تعود جذور الماسونيَّة إلى جماعات أو نقابات الحرفيِّين في العصور الوسطى الإقطاعيَّة في الغرب، وهي جَماعات كانت منظَّمة تنظيمًا صارمًا شبْه ديني، فكان لكلِّ نقابة طقوسها الخاصَّة ورموزها الخفيَّة، وقسمها السري، وأسرار المهنة التي تحاول كل جماعة الحفاظ عليها.

وهذه كلُّها أدوات لها وظيفة اجتِماعيَّة شديدة الأهميَّة؛ إذ إنَّه مع غياب المؤسَّسات التَّعليميَّة، كان يتمُّ توْريث المعلومات، والخبرات المختلفة الحيويَّة اللازمة لاستِمْرار المجتمع، من خلال نقابات الحرفيِّين، وبدون هذه العمليَّة، لم يكن المجتمع ليحقِّق أيَّ استمرار.

وكانت جماعات البنَّائين من أقْوى الجماعات الحرفيَّة؛ ذلك أنَّ العصور الوسطى كانت العصر الذَّهبي لبناء الكاتدرائيات والأديرة والمقابر، وكان البنَّاؤُون يَعيشون على أجرهم وحده، على عكس الحرفيِّين الآخرين، مثل النسَّاجين والحدَّادين الَّذين كانوا يتقاضَون من زبائنِهم مقابلاً عينيًّا من خلال نظام المقايضة، أي إنَّ البنَّائين (مثل أعضاء الجماعات اليهودية)، كانوا جزءًا من اقتِصاد نقدي في مجتمع زراعي.

كما أنَّ البنَّائين كانوا أحرارًا تمامًا في حركتِهم، فقد كان الحدَّاد، مثلاً، يقوم بعمله في مكان ثابت، ويقوم على خدمة جماعة بعينِها، أمَّا البنَّاء فكان عليه الانتِقال من مكان إلى آخر بحثًا عن عمل.

ولذا؛ يُمكن القول بأنَّ البنَّائين كانوا من أكثر القطاعات حركيَّة في المجتمع الوسيط في الغرب، وكان على البنَّائين أن يَجدوا إطارًا تنظيميًّا يتلاءم مع حركيَّتهم، فالنِّقابات الحرفيَّة بتنظيمها المأْلوف كانت ملائمة للحرفيِّين الثابتين، أمَّا بالنسبة للبنَّائين، فكان لا بدَّ من ابتِداع إطار حركي خاصّ بهم[2].

ولا يُمكن فهم الماسونيَّة إلاَّ بوضْعِها في هذا السياق الفكْري، الَّذي ولدت فيه في أوربَّا، فبعد ظهور فكْر عصر النَّهضة الأوربي وُلد فكر عصر العقْل والاستِنارة والإيمان بالقانون الطَّبيعي، والعلمانيَّة اللادينيَّة.

والعلمانيَّة (الشاملة) هي نزع القداسة عن العالم (الإنسان والطبيعة)، والإيمان بفعاليَّة القانون الطبيعي في مجالات الحياة الطَّبيعيَّة والإنسانيَّة كافَّة، وإنكار أيّ غيب، وإلاَّ لَما أمْكن التَّحكّم في الكون (الإنسان والطبيعة)، وتوْظيفه واستِخدامه وتحويله إلى مادة استعماليَّة.

أي إنَّ الإنسان الطبيعي العقْلاني العالمي (الأممي) يُمكنه أن يتوصَّل بعقله إلى الإيمان بدين طبيعي عقلاني عالمي.

ويُمكن القول بأنَّ الدِّين الطبيعي، أو “الربوبيَّة” كما كانت تُدعَى، هو تعبير عن معدَّل منخفض من العلمنة، أو تعبير عن علمانيَّة جنينيَّة، فهي تستجيب لحاجة أولئك الَّذين فقدوا إيمانهم بالدّين التقليدي، ولكنَّهم لا يزالون غير قادرين على تَقبُّل عالم اختفى منه الخالق تمامًا، أي إنَّهم بشر جرَّدوا العالم من الدين والقداسة، واليقين المعرفي والأخلاقي، ولكنَّهم احتفظوا بفكرة الخالق في صيغة باهتة لا شخصيَّة، حتَّى لا يصبح العالم فراغًا كاملاً[3].

والفكر الربوبي لا يطالب مَن يؤمن به بأن يتنكَّر لدينه؛ إذ إنَّ المطلوب هو أن يعيد تأسيس عقيدته، لا على الوحْي وإنَّما على قيم عقلية مجرَّدة منفصلة تمامًا عن أي غيب، أي منفصلة عن الأنساق الدينيَّة المألوفة للتَّفكير.

فالربوبيَّة، في واقع الأمر، فلسفة علمانيَّة تستخدم خطابًا دينيًّا، أو ديباجات دينيَّة، للدفاع عن العقْل المادّي المحْض، وعن الرؤية التجريبيَّة المادّيَّة، ومن ثمَّ فهِي وسيلة من وسائل علمنة العقل الإنساني.

في هذا الإطار الفكري والفلسفي والديني، وُلدت الماسونيَّة، وقد تمَّ تأْسيس أربعة محافل متفرِّقة في إنجلترا في القرْن السَّابع عشر، جمعها كلها محفل واحد مركزي تأسَّس عام 1717 م، مع بدايات عصر العقْل وحركة الاستنارة، ويُعَدّ هذا التاريخ هو تاريخ بدء الحركة الماسونيَّة، ففرسان المعبد بعد إحراق الكثير من أتباعهم، استمرّوا بنشاطهم وعقائدهم تحت سقف “المحفل الماسوني” للبنَّائين الأحرار، بعدها بنى هؤلاء أوَّل محفل ماسوني في العالم في إنجلترا عام 1717م، وهذا يمثل تاريخ الطَّور الثاني لمحفل البنائين؛ إذ تحوَّلوا من نقابة إلى منظمة تتبنى فكر وعقائد فرسان المعبد، ثمَّ شرعوا في نشْر عقائدهم المرتبطة بالمصادر الصوفيَّة الحلوليَّة الباطنية اليهوديَّة السحريَّة الوثنية “القابالاه”، وشركاؤهم في الإثم الكنيسة البروتستانتيَّة.

ويعترف ماسونيو تركيا بالعلاقة بين فرسان المعبد والماسونيَّة، ففي مقالة ظهرتْ في مجلَّة “الماسونيين الأتراك”، واسمها “معمار سنان Mimar Sinan ” العدد 77 عام 1990 صفحة 78 – 81، بقلم “أندر آركون Ender Arkun” تحت عنوان “نظرة سريعة إلى جهود الماسونيين في التطوّر الفكري” “إنَّ الماسونيين اليوم بعقائدهم وفلسفتهم امتداد لـ فرسان المعبد.. لفلسفة وعقائد فرسان المعبد، وعلاقتهم بعقيدة الكابالا..”.

وقد سُمح لليهود بالالتِحاق بها عام 1732، ودخلت الحركة الماسونية فرنسا عام 1725، وإيطاليا وألمانيا عام 1733.

وإن أردنا تلخيص فكر أولى الماسونيَّات التي نقابلها، ولنسمِّها “الماسونية العقلانية” أو “الماسونية الربوبية”، لقُلْنا: إنَّها تنادي بتوْحيد كل البشر من خلال العقل، كما تنادي بإسقاط الدين مع الاحتِفاظ بالخالق خشية الفوضى الفلسفيَّة الشاملة[4].

وللغاية هذه وجَّهت مخطَّطاتها لكل الأنشطة والمجالات، من السِّياسة إلى تحديد النسل، وإشاعة مبادئها الإباحيَّة، وقلْب الأنظمة الملكية، والإطاحة بالسلطة الكنسية، وهدم الأعراف والقيم والأخلاق.

لَم تكن ترْمي الماسونيَّة إلى السَّيطرة على العالم تحت حكومة عالميَّة موحَّدة في بادئ أمرِها 1717م، بل كانت لحماية أتباعها عبَدة الشَّيطان وهم فرسان المعبد، وعودتهم لسؤْددهم، واسترجاع ما خسروا من أموال، حتَّى ظهرت في 1770م بذور فكرة إقامة مجمع شيطاني “المجمع النوراني” (The Illuminati الإليوميناتي)، فأسّس الألماني آدم وايز هاوبت مذهبًا باسم “حملة النور الشيطاني” النورانيِّين ضمْن المجمع النوراني، وفي عام 1776م، نظم وايز هاوبت جماعة النورانيّين لوضْع مؤامرة انتِشار دعوتهم وسيْطرتهم موضع التَّنفيذ، للوصول إلى حكومة عالمية واحدة، وبمصطلح معاصر “العولمة”، تتكوَّن من ذوي القدرات الفكريَّة الكبرى، مما يُتمّ البرهان على تفوُّقهم العقلي، واستطاع وايز هاوبت بذلك أن يضمَّ إليه ما يقرب الألفين من الأتباع في وقت قصير، من بينهم أبرز المتفوِّقين في ميادين الفنون والآداب والعلوم والاقتصاد والصناعة، وعند ذلك أعلن هاوبت تأْسيس محفل الشَّرق الأكبر؛ ليكون مركز القيادة السري لرجال المخطط الجديد.

اندماج النورانية والماسونية:
بعد أن فضحتْهم حكومة بافاريا عام 1786، انتقل نشاط النورانيين منذ ذلك الوقْت إلى العمل في الخفاء والتستُّر خلف مسمَّى “العالميَّة”، وكذا تمَّ نقل مركز قيادة النورانيِّين وكهنة النظام الشَّيطاني إلى سويسرا، فلبِثوا هناك حتَّى نهاية الحرب العالميَّة الثَّانية، حيث انتقلوا إلى نيويورك[5].

ولكي يحافظ وايز هاوبت على برنامجه رأى أن يمتزج مع الماسونيين، الذين يجدون مطلق الترحيب في الأوساط البروتستانتيَّة، وذلك لكون المذهب البروتستانتي صهيونيَّ النزعة، يهودي الجذور، فبالتالي؛ هو لا يتعارض كثيرًا مع التطلُّعات الماسونيَّة اليهودية، وهذا التحوّل سيجعل النورانيِّين ينشطون في البلدان البروتستانتية مثل الولايات المتَّحدة وبريطانيا، ثمَّ استراليا وشمال أوربَّا.

حينئذ أصدر وايز هاوبت تعاليمه إلى أتْباعه بالتَّسلُّل إلى صفوف ومحافل جمعية الماسونية الزرقاء، على ألاَّ يُسمح بدخول المذهب النوراني إلاَّ للماسونيين الَّذين برهنوا على ميلهم للأمميَّة، وظهر في سلوكياتهم ميولٌ نحو العقيدة الشَّيطانية، وتكوين جمعيَّة سرّيَّة في قلب التنظيمات السرية، وتم ذلك في مؤتمر فيلمسباد في سنة 1782م، حيث امتزجت النورانية بالماسونيَّة، وصار النورانيُّون هم أعلى الهرم الماسوني، فهم يهود صهْيونيون عالميّون عبدة شيطان نورانيون، ولهم أعلى الدرجات الماسونيَّة، فالنورانيون هم نخبة الماسون.

وحال ما شرعوا في التَّمهيد للتَّسلُّل إلى المحافل الماسونيَّة في بريطانيا، وجهوا الدَّعوة إلى جون روبنسون أحد كبار الماسونيين في سكوتلندا، والَّذي كان أستاذًا للفلسفة الطبيعيَّة في جامعة أدنبره وأمين سرّ الجمعيَّة الملكيَّة فيها، ولكن خدعتهم لم تنطَلِ عليْه، ولم يصدق أنَّ الهدف الذي يريد “العالميون” الوصول إليْه هو إنشاء دكتاتوريَّة “محبَّة وسماحة”، وحين عهد إليه النورانيُّون بنسخة منقَّحة في مخطَّط مؤامرة وايز هاوبت لدراستِها والحفاظ عليها، راح ينبِّه الحكومات إلى خطر النورانيّين، وعمد إلى نشر كتاب سنة 1798م أسْماه: “البرهان على وجود مؤامرة لتدْمير كافَّة الحكومات والأدْيان”.

وعقيدتهم شيطانيَّة، ترمي إلى عبادة الشَّيطان، وهي من المخلَّفات الوثنيَّة القديمة، التي عبرت من جيل لآخر، ومن ديانة لما بعدها، حتَّى وصلت للفرسان الصليبيِّين؛ فارتدُّوا عن النصرانية واتَّخذوا الشعارات الوثنيَّة نمطًا فكريًّا يوحِّدُهم في توجُّهاتهم وتنظيمهم، ويضمن لهم الولاء الطَّائفي، وخلاصة عقيدتهم عبادة الذَّات؛ لذا أمكن هذه الأفْكار أن تخترق أيَّ ديانة أو جيل؛ لأنَّ مركبات الذَّات الإنسانيَّة واحدة، وما خلا فردٌ منها، والنفس أمَّارة بالسوء، تطمح للذاتيَّة والاستعلاء، وإزالة القيود والأغلال.

وإن قال البعض بأنَّ الماسونيَّة يهودية، فهذا يتوقَّف فيه؛ إذ فرسان المعبد نصارى حتَّى النخاع، ارتدُّوا فيما بعد إلى ديانة عبدة الشَّيطان لا إلى اليهوديَّة، ولو استدلَّ بفلسفة القابالاه، التي يعتمدونها في جملةٍ من معتقداتهم، فهذه فلسفة حلوليَّة ربوبيَّة باطنيَّة كفريَّة حتَّى في الديانة اليهوديَّة، ولو قلنا بأنَّ القابالاه اليهوديَّة – عرفًا – من الديانة اليهودية؟ هل نسلم أن عبدة الشيطان اليزيديَّة من الديانة الإسلاميَّة؟ إذًا فكلاهما طائفتان مرتدَّتان عن دينهما الأصلي.

زِد على ذلك: فلسفة القابالاه وعبادة الشيطان، أصلُها يرجع إلى اليونان والفرس والسومريين والبابليِّين والفراعنة، وجامعها أنَّها خليط لفلسفة وثنيَّة سحريَّة، والسحر سَرَى في أتْباع كلِّ الأدْيان، والسَّحرة عبدة الشَّياطين.

أم رابط العودة لبناء هيكل سليمان، فما أحسبه إلاَّ قولهم فيه أنَّه ساحر وليس بالنَّبي المعروف، وهم رأس السحر، والسَّاحر ضمنا أفَّاك أثيم تنزَّل عليه الشَّياطين، فتمْجيدهم للهيكل كونه معبدَ أعظمِ السحرة عندهم، والله أعلم.

يقول البروفيسير كينيث بالميرتون: “لو تحدَّثت مع معظم الماسونيِّين سيقولون لك إنَّ الأمر يتعلَّق ببناء هيكل سليمان، لكن حين تنتهي من بَحثك ستجد أنَّ الأمر يتعلَّق بهيكل نمرود”[6].

ماهيَّة الصهيونيَّة:
حركة سياسيَّة لا دينيَّة (علمانية)، قوميَّة عنصرية متطرِّفة، ترمي إلى إقامة دولة لليهود في فلسطين.

واشتقَّت اسم (جبل صهيون) في القدس، لتشييد هيكل سليمان، وإقامة مملكة القدس.

غير أنَّها وليدة “الحركة الاستعماريَّة الإمبرياليَّة”، فقد حاول الاحتِلال الغربي في العالم العربي استِقْطاب الإثنيَّات العرقية، وتحْويلهم إلى جماعات وظيفيَّة عميلة له، فقامت جماعة الأليانس بنشْر اللغة والثَّقافة الفرنسيَّتين بين أعضاء الجماعات اليهوديَّة في العالم العربي، في مصر والجزائر وفي غيرهما من البلدان، كما أُتيحتْ لهم فرصة الحصول على الجنسيَّات الأوربيَّة، ومن ثم الاستِفادة من المزايا المواطنة، وهذه عملية مُكمِّلة “للاستِعْمار الاستيطاني الغربي”، الَّذي وصل إلى قمَّته في تأسيس (الدَّولة الصهيونية) في فلسطين، والجيب الاستيطاني في الجزائر.

و”الاستعمار الاستيطاني” هو وصول عنصر سكَّاني غريب؛ يغرس نفسه غرسًا في البلد المستعمر، ويدين بالولاء للوطن الأمّ، ويرتبط به ثقافيًّا، ويدافع عن مصالحه.

ولكن بدلاً من استيراد عنصر بشري غريب قام الاحتِلال الغربي بالبحث عن عنصر بشري محلّي، ليمسخَه إلى عنصر غريب عميل، يرتبط ثقافيًّا به ويدين له بالولاء، ونجح الاستِعمار نجاحًا كبيرًا حتَّى إنَّ معظم يهود العالم العربي، عند إنشاء الدَّولة الصهيونية، كانوا قد أصبحوا – ثقافيًّا واقتصاديًّا – جزءًا من التَّشكيل الاستعماري الغربي، وحصلتْ أعداد كبيرة منهم على الجنسيَّات الأوربية، كلّ يهود الجزائر ومعظم يهود تونس والمغرب وأكثر من نصف يهود مصر، وهكذا، أي إنَّهم تحوَّلوا إلى “جماعة وظيفيَّة عميلة”، ومن ثمَّ كان من السَّهل عليهم الهجرة والانضِمام إلى “الدَّولة الوظيفيَّة الاستيطانيَّة” والقتالية في (إسرائيل).

ويرى البعض أنَّ للتصوُّرات الصهيونيَّة العالمية جذورًا تاريخيَّة فكريَّة وسياسيَّة تجعل من الضَّروري؛ لفهم هذه الحركة الوقوف على أدوارها:
1- حركة المكابيين: التي أعقبت العودة من السبي البابلي (586 – 538) قبل الميلاد، وأوَّل أهدافها العودة إلى صهْيون وبناء هيكل سليمان.
2- حركة باركو خبا (118 – 138م): وقد أثار هذا اليهودي الحماسة في نفوس اليهود وحثَّهم على التجمُّع في فلسطين وتأْسيس دولة يهوديَّة فيها.
3- حركة موزس الكريتي: وكانت شبيهة بحركة باركو خبا.
4- مرحلة الركود: في النَّشاط اليهودي بسبب اضطِهاد اليهود وتشتُّتهم، ومع ذلك فقد ظلَّ الشعور القومي عند اليهود عنيفًا لم يضعف.
5- حركة دافيد روبين: وتلميذه سولومون مولوخ (1501م – 1532م)، وقد حثَّ اليهود على ضرورة العوْدة لتأْسيس ملك إسرائيل في فلسطين.
6- حركة منشه بن إسرائيل: (1604 – 1657م) وهي النَّواة الأولى التي وجّهت خطط الصهيونيَّة وركَّزتْها على أساس استِخدام بريطانيا في تحقيق أهداف الصهيونيَّة.
7- حركة شبتاي زفي: (1626 – 1676م) الَّذي ادَّعى أنَّه مسيح اليهود المخْلص، فأخذ اليهود يستعدُّون للعودة إلى فلسطين ولكن مخلصهم مات.
8- حركة رجال المال: الَّتي تزعَّمها روتشيلد وموسى مونتفيوري، وكانت تهْدف إلى إنشاء مستعْمرات يهوديَّة في فلسطين كخطوة أولى لامتلاك الأرض، ثمَّ إقامة دولة اليهود.
9- الحركة الفكريَّة الاستعماريَّة: التي دعتْ إلى إقامة دولة يهوديَّة في فلسطين في بداية القرْن التَّاسع عشر.
10- حركة صهيونيَّة: عنيفة قامتْ إثر مذابح اليهود في روسيا سنة 1882م، وفي هذه الفترة ألَّف هيكلر الجرماني كتابًا بعنوان “إرجاع اليهود إلى فلسطين حسب أقوال الأنبياء”.
11- الصهيونيَّة الحديثة: وهي الحركة المنسوبة إلى تيودور هرتزل، الصَّحفي اليهودي النمساوي (1860 – 1904م)، وهدفها الأساسي الواضح قيادة اليهود إلى حكم العالم بدءًا بإقامة دولة لهم في فلسطين، وقد فاوض السُّلطان عبدالحميد بهذا الخصوص في محاولتين، لكنَّه أخفق.

وهرتزل هو الأب الروحي للصهْيونية المتعارف عليها الآن، وأوَّل مؤتمر صهيوني عالمي سنة 1897م، أي إنَّ نشأتها كمنظَّمة لها مؤسَّسات وأفكار وبرنامج وأعضاء ونشاط ميداني كان في 1897م، أمَّا الإرهاصات وإحياء الأحْلام السابقة، فلا تعدّ من مراحل النَّشأة وأطوارها، وإن تعجب فعجب قولهم: إن نشأتَها من العهد البابلي! فمذ متى كانت الأحلام تمثل هيئة منظمة؟

فلو ضربنا لذاك مثلا من بيننا، “الصَّحوة الإسلاميَّة” بكلّ التيَّارات والفرق التي ساهمت فيها، أليستْ عقائِدها ودعواتها، ترجع لما كان عليْه مجد المسلمين؟ ألَم يكن مشروعها إعادة هيبة الإسلام والمسلمين؟ وإن اختلفت في الكيْف، هل يزعم قائل أنَّ عهد نشأتها، لمَّا جهر النَّبي – عليه السلام – بالدعوة؟

لذا؛ فالمعتمد الموثق بين المخالفين والموافقين، أن تيودور هرتزل هو مؤسّس الصهيونية سنة 1897م.

والصهيونية قوميَّة علمانيَّة، تقول صحيفة “الغارديان” البريطانية: إنَّ الصهْيونيَّة السياسيَّة كانت في البداية حركة جدليَّة بين اليهود وأنفُسهم، وكانت تلاقي معارضةً كبيرة من قبل الألمان، ومن قِبل حاخامات الإصْلاح الَّذين عارضوا فكْرة وضع الصهيونيَّة مكان اليهوديَّة، إلى أن جاء تيودور هيرتزل في عام 1897م عبر مؤتمره في مدينة بال السويسريَّة، لتثبيت هذه الفكرة ونشرها عالميًّا.

وتُشير الصحيفة إلى أنَّه في عام 1905، أي بعد 20 عامًا من مؤتمر هرتزل، أعلن وزير الخارجيَّة البريطاني آرثر بلفور، قانونًا جديدًا عرف باسم “قانون الأجانب عام 1905″، الَّذي وجد من أجل الحدّ من الهجْرة اليهوديَّة المتزايدة إلى الممْلكة المتَّحدة (بريطانيا).

يقول الأستاذ عبدالوهاب المسيري: “نحن نرى أنَّ الصهْيونيَّة حركة ليست ذات جذور يهوديَّة، وإنَّما حركة ذات جذور غربيَّة استعماريَّة، تهدف إلى تخْليص أوربَّا من اليهود عن طريق توْطينهم في فلسطين، ومن ثَمَّ فنحن نرى أنَّها لا تُوضَع (أو تُصنَّف) كمقابل ظاهرة العداء لليهود وإنَّما هي امتداد لها”.

وقد طُرحت الصيغة الصهيونيَّة الأساسية الشاملة بعد صياغتها على أيدي بعض المفكِّرين غير اليهود على الجماهير اليهوديَّة، وفي بعض الأحيان فُرضت على هذه الجماهير فرضًا؛ ومن هنا يصبح عداء بلفور لليهود أمرًا بالغ الأهميَّة، وتصبح شخصيَّة مثل ألفريد نوسيج، الَّذي شارك في تأْسيس الحركة الصهيونيَّة مع هرتزل (لتخليص أوربَّا من اليهود) ثمَّ امتد به العمر ليُقدِّم للجستابو مخطَّطًا لإبادة يهود أوربَّا[7]، ليس مجرَّد شخصية هامشيَّة تشكل انحرافًا عن مسار الصهْيونيَّة، وإنَّما يجب تصنيفه باعتباره شخصيَّة “نماذجيَّة”[8] دالَّة، ومن هنا أهمية معاهدة “الهعفراه” بين النازيين والصهاينة.

وقد طرحنا أيضًا نموذج الجماعة الوظيفيَّة كنموذج تفْسيري أساسي، وبناءً عليْه أصبحت تجربة يهود بولندا في ظلِّ الإقْطاع الاستيطاني، ونظام الأرندا في أوكرانيا وعلاقتهم بطبقة النُّبلاء البولنديِّين (شلاختا) ذات أهميَّة محوريَّة.

فمن خلال نموذجنا التَّفسيري أصبحت هذه الوقائع التي تُهمَّش في كتُب التَّاريخ الصهيونيَّة ذات دلالة نماذجيَّة عميقة، وتمَّ تصنيفُها على هذا الأساس، التَّعاقب والتَّزامن (نموذج تاريخي وبنيوي، يدور حول موضوعات) …”[9].

لذلك كان على الحكومة البريطانيَّة أن تجد حلاًّ لهذه المشكلة، ما أدَّى إلى إعلان وعد “بلفور” الشَّهير، الَّذي دعت فيه بريطانيا على لسان وزير خارجيَّتها، إلى اعتبار فلسطين بلدًا قوميًّا ليهود العالم، وأكَّدت بريطانيا وقْتَها أنَّ هذا الإعلان لا يندرِج تحت معاداة اليهود، بل بسبب الأرقام الكبيرة لأعداد اليهود في بريطانيا.

ورغْم ذلك، فقد اتَّهم اليهود الحكومة البريطانيَّة بمعاداة اليهود، وهو ما أعْلنه أحد أعضاء مجلس الوزراء البريطاني (اليهودي)[10].

فأصول الفكرة الصهْيونيَّة لم تذرو من بين اليهود، بل اليهود في شتاتِهم أكثر نشاطًا وفاعليَّة، مما هم عليه في تجمُّعهم ضمن دولة، وقد أثبتت دراسات عربيَّة حديثة أُجريت على اليهود العرب الَّذين هاجروا للأراضي المحتلَّة، أنَّ أحوالَهم الاقتِصاديَّة والاجتِماعيَّة بل والنَّفسيَّة في مستوطنهم ساءتْ، والحرّيَّات الَّتي تَمتَّعوا بها كأقلّيَّات في الوطن العربي، أكثر ممَّا هي عليه في الأراضي المحتلَّة.

مقارنة بين الماسونية والصهيونية:
• نشأة الماسونيَّة الموثقة عام 1717م، يقول أحمد السحمراني: “ولعلَّ ما يعزِّز هذا أنَّ الوثائق الماسونيَّة تبدأ من هذا التَّاريخ، والعامل الحاسم في نشْأة الماسونيَّة هو نشر الأدبيَّات العبرية في أوربا، حيث قامت الكنيسة البروتستانتيَّة بعمل هذه الأدبيَّات العبريَّة، وفي رحم البروتستانتيَّة نشأ عدد من الشيع أولها الماسونية؛ لهذا نجد أنَّ الماسونية والبروتستانتية تشتركان في مواجهة الكنيسة الكاثوليكيَّة”.

أمَّا الصهيونيَّة، ففي عام 1897م، فكيف يقول البعض إنَّ الماسونيَّة وليدة الصهْيونيَّة؟ ولا حتَّى لقيطتها، فإن رام جدلا أنَّ الصهيونيَّة مذ عهد السَّبي البابلي والماسونيَّة منذ عهد الملك هيرودوس 43م، فهذا مدحوض بأنَّه لم تثبت وثيقة قطّ على أنَّ في ذلك الزمن وجدت منظَّمة من هذا القبيل، وإن كان فأنَّى لهم إيجادها، بل لا يعْدو هذا من إضفاء هالة من العراقة على منظَّمتهم، ومكْمن المربط هنا أنَّ فكرة الصهْيونيَّة لصيقة بالشَّتات اليهودي، وعقيدة العودة للوطن؛ لذا وجدوا خيطًا في أنَّ أوَّل شتات لهم كان عهْد السَّبي البابلي، فلمَ لا يجعلونه أيَّام الاستعباد الفرعوني؟ وموسى – عليه السلام – هو أوَّل من قاد العودة، وجد بالفعل من قال بذاك.

لكن حال قيام المملكة وبلوغ السيادة، انتهت صلاحية الفكرة الصهيونيَّة؛ لذا لو زعم أنَّ هيرودس مؤسّس الماسونية عام 43م، فأهْدافها واقعيَّة ولها ضروراتُها اليهودية، لكن ما هي دواعي الصهْيونية زمنه؟ بالطَّبع لا شيء، لكن بعد إجلائهم من طرف الرومان صار للصهْيونيَّة دوافع، وأمكن جدلا جمعها مع الماسونيَّة، فتصبح أهداف الماسونية “زائد” مطلب العودة للأراضي المقدسة، “تساوي” الصهيونية، فتكون الصهيونية، هي البنت والماسونية أمّها.

زد على ذاك كله: لا نسلم أنَّ الماسونيَّة من نتاج اليهود، فلا نملك من الأدلَّة إلاَّ ما يثبت أنَّ الماسونية صنيعة فرسان المعبد النَّصارى.

• بل أقْوى من ذاك حجَّة أنَّ الماسونيَّة لم تضمَّ في محافلِها الأولى يهوديًّا قطّ، بل أدْمغ منْه أنَّ دستور المحافل الماسونية في سكوتلندا وإنجلترة وفرنسا وألمانيا، كان يَمنع انضِمام اليهود على الإطلاق.

وقد برز اليهود في الحركة الماسونيَّة، وخصوصًا في إنجلترا فقط عام 1732، أي بعد 15 عامًا من تأْسيس المحفل الماسوني الأوَّل، وأُسِّس أوَّل محفل ماسوني يهودي عام 1793، وهذا المحفل الخاصّ بالعنصر اليهودي يُمكن اعْتِباره من إرهاصات نشوء “فكْرة” المنظَّمة الصهيونيَّة.

أمَّا في فرنسا، فقد أصبح السِّياسي الفرنسي اليهودي أدولف كريمييه البنَّاء الأعظم للمحفل الأكبر على الطَّريقة الأسكتلندية عام 1869م.

ولكن الصورة لم تكن واحدة في كلّ البلاد، ففي شبه جزيرة إسكندنافيا، وكذلك في ألمانيا، ظلَّت مشاركة اليهود في الحركة الماسونيَّة مسألة خلافيَّة، وقد سُمح حتَّى عام 1870م لعدد صغير جدًّا من اليهود بالانخِراط في سلك الحركة.

وكان بعض المحافل يقبل اليهود، ولكن داخل إطار ألماني مسيحي، فمحفل الإخوة الآسيويّين الذي أُسِّس في فيينا خلال عامي 1780 و1781، كان ضمْن طقوسه أكْل لحم الخنزير باللَّبن، ومعلوم أنَّ لحم الخنزير محرَّم على اليهود، وكذلك فإنَّ خلط اللَّحم باللبن محرَّم عليهم أيضًا[11].

وقد تزايد إقبال اليهود على الانخراط في المحافل الماسونيَّة في ألمانيا، وقامت دعوة بين الماسونيِّين الألمان تُطالب بقبول اليهود كأعضاء في الحركة، لكن هذه الدَّعوة لم تنَل تأييد زعامة الحركة، وقد تحوَّل بعض يهود ألمانيا إلى الماسونيَّة أثناء رحلاتِهم في إنجلترا وهولندا، وخصوصًا في فرنسا ما بعد الثورة.

وتأسَّست في ألمانيا نفسها محافل فرنسيَّة ومحافل بمبادرة فرنسيَّة، وأسّس يهود فرانكفورت عام 1808 محفل “الفجر الوليد” بتصْريح من منظَّمة الشَّرق الأعظم.

ولا شكَّ في أنَّ مثل هذه المحافل الفرنسيَّة اليهودية زادت من عداء الماسونيِّين الألمان لليهود، ومن ثمة، ظهرت دساتير ماسونيَّة تستبعد اليهود بشكل خاصّ، ولكن بعض المثقَّفين الماسونيين الألمان قاموا في ثلاثينيَّات القرن بالاحتِجاج على استبعاد اليهود، وانضمَّ إليْهِم في احتجاجهم هذا ماسونيو إنجلترا وهولندا والولايات المتَّحدة.

وقد اكتسحت ثورة 1848 بعض الفقرات التي تستبعد اليهود، واعترفت المحافل المسيحيَّة في فرانكفورت بالمحافل اليهوديَّة، وقد كانت محافل بروسيا هي الاستثناء الوحيد حيث استمرَّت في استِبْعاد اليهود، ولكنَّها بدأت مع السبعينيَّات تسمح بدخول اليهود زوَّارًا ثمَّ أعضاء.

ولكن الموجة العنصرية التي صاحبت الهجْمة الإمبرياليَّة على الشَّرق، اكتسحت أوربا بأسرها وأخذت أشكالاً عديدة من بينها معاداة اليهود.

وتقوم بعض أدبيَّات معاداة اليهود بالرَّبط بين اليهود والماسونيين، وتذهب إلى أنَّ ثمَّة تعاونًا سريًّا بين الفريقَين للسَّيطرة على العالم، ولتخْريب المجتمعات، وقد تردَّدت هذه الفكرة إبان محاكمة دريفوس.

كما أنَّ هذا الموضوع نفسه يتردَّد أيضًا في “البروتوكولات”، وقد كان الرَّبط بين اليهود والماسونيّين أحد أحْجار الزَّاوية في الدِّعاية النَّازية المضادَّة لليهود، حيثُ كان النَّازيُّون يشيرون دائمًا إلى كريمييه باعتِباره البنَّاء الأعظم ومؤسّس جمعيَّة الأليانس اليهوديَّة.

فتاريخ الماسونيَّة يثبت تَحقيرَها لليهود أوَّل الأمر، فكيف تُنسب لهم الفكرة؟

من هنا نرى التَّداخُل غير المنطقي في رمْي الأحكام على الآخرين، وسؤال واحد هنا: هل كون اليهود أشدَّ أعدائنا يبيح لنا بأن نكون حاطب ليل وجارف سيل، نتلقَّط كلَّ نقيصة، وننسبها دون أثارةٍ من علم لبني صهيون؟

بل حتَّى عيوب قومنا صرنا نعلِّلها “بالمؤامرة” اليهوديَّة والصهيونيَّة!

بل أغرب من ذلك في جدل بعض الدعاة مع المخالفين، نسب نشوء “الإخوان المسلمين” إلى مؤامرة صهيونيَّة! وفي جدال مع طرف آخَر نسب نشوء “الوهابيَّة”[12] إلى الصهيونيَّة! ما نقص إلاَّ أن ينسبوا الإسلام لها!

ولك أن تقرأ حول الحركات الهدَّامة في تاريخ المسلمين[13]، فكلّ نابتة يذرو قرنُها بشرٍّ إلاَّ قالوا: من مكْر اليهود والصهيونيَّة! تشابه الخلق عليهم، فخرقوا للمنظَّمة بنين وبنات.

• تُعرَّف الماسونية بأنَّها مجموعة من التعاليم حول أخلاقيَّات معيَّنة، والمنظَّمات الأخويَّة السرية التي تمارس هذه التعاليم، والتي تضمّ البنَّائين الأحرار والبنَّائين المقبولين أو المنتسبين، أي الأعضاء الذين لا يُمارسون حرفة البناء، فالماسونيَّة منظَّمة دينيَّة ديانتها شَيطانيَّة، شعارُها هدم الأدْيان الأُخرى بوحدة الأدْيان، التي تفرز حريَّة اختِراع أي معتقد، فيصْبح الإنسان مشرعًا وهو الإله، وشعاراتها العلمانيَّة (لا دين).

أمَّا الصهْيونيَّة، فهي منظَّمة قوميَّة للعرق اليهودي لا للدِّين اليهودي، وهِي علمانيَّة حتَّى النخاع.

• والصهْيونيَّة غايتها إقامة الوطن اليهودي، وتفْريغ أوربَّا منهم بتهْجيرهم، والقول بهدفها إلى سيْطرة على العالم من خلال “بروتوكولات حكماء الصهيون”، فهذه الوثيقة مثار خلاف حول ثبوتِها ونسبتها أصلا، وإن صحَّت فهي محلّ نزاع، ومحلّ النِّزاع لا يستدلُّ به، فضلا على أن يؤصل ويُبنى عليه، وهذه القاعدة تلمس في مخالفاتِها من بعض المفكِّرين عجبًا، لكأنِّي بهم من “المفركين” أكثر منهم مفكرين، فيُحْبَك الكلام لمن يراد أن يسمعه، وينظم لمن يستسيغه، فلا يعزف إلاَّ لمن يطرب له!

والقضيَّة مثار جدل مع المخالف لا مع الموافق، وإلاَّ فالبروتوكولات وُجدت أو عدمت فاليهود أعداؤُنا، والله أعلم بأعدائنا، وكتبوا أم لا، فهُم جنس تآمر، وسيرتُهم مع نبيِّنا وأصحابه لا تحوجنا إلى التشبُّث بقشَّة البروتوكولات، وهم لا يبْغون إلاَّ الشَّر.

• تضمّ الماسونيَّة في صفوفها كلَّ الأعْراق والأدْيان، بشتَّى النِّحَل والملل، أمَّا الصهيونية فهي يهوديَّة خالصة.

يقول هرتزل: “.. إنَّ هدف الحركة الصهْيونيَّة هو تنفيذ النَّصّ الوارد في الكِتاب المقدَّس، بإنشاء وطن قومي يهودي في فلسطين”[14]، مع أنَّه علماني لا ديني من ناصيته إلى أخْمص قدميه، وكلامه ليس إلاَّ من قَبيل دغْدغة مشاعر العامَّة اليهوديَّة بأنهم تحت حماية الرَّبّ؛ إذ هم “شعب الله المختار”، ومثله في ذاك الدَّعيّ “أتاتورك” الَّذي كان يدخل المساجِد ويصلِّي تحت أضواء آلات التَّصوير، وهو معول لهدم الإسلام في تركيا، ومثلهم من السياسيِّين كثير.

يقول بن غوريون: “قد لا تكون فلسطين لنا من طريق الحقّ السياسي أو القانوني، ولكنَّها حق لنا على أساس ديني، فهي الأرض التي وعدَنا الله، وأعطانا إيَّاها من الفرات إلى النيل”[15].

الإشكال هنا: هل يلزم من تقاطع الأفكار أو الأهداف، تطابق النسق الفكري؟
هل كون المنظَّمتين تمجِّدان الهيكل، وتُريدان السَّيطرة على الأراضي المقدَّسة، والتَّحكُّم في العالم، يدلُّ على أنَّهما حدَّا سيفٍ واحد؟ لا بدَّ من قرائن قويَّة.

بعض العبارات التي تَجدها في الكتابات حول الحركتَين وعلاقتهما باليهود تلمس فيها شيئًا من التَّعميم والتَّعتيم، كقولهم: استغلَّ اليهود الماسونيَّة، استغفلوا الكثير من المبْدعين والعلماء والمفكرين، خدعوا الكثير من الأفاضل والسَّاسة.

إن كان العقلاء دمغتهم هاتِه المنظَّمة فلنكبر إذًا على العامَّة، والكاتب لا أدري أين موقعه؟ وكيف يحول المتهم إلى بريء؟ بل ومستغفل ومستغل، وليس لزمن بل منذ انضمامه إلى أن يقبر!

بل بعض من قيل إنَّهم استدرجوا من الماسونيَّة، فكرهم وعقائدهم مطابقة لعقائد الماسونيَّة، بل هم أساتذة لأتباعها.

كما أنَّ البعض الآخر ثبتَ من تاريخهم أنَّ انضمامهم لم يكن قبولا لأفْكار الماسونيَّة، بل طلبًا للشهرة الَّتي توفِّرها لهم، أو للنفوذ أو المال، أي لمصالح شخصيَّة، خاصَّة أنَّ الانضِمام للنَّوادي كان موضةً للطَّبقات المثقَّفة والأرستقْراطية، والساسة الطَّامحين للمناصب العليا.

بل الماسونية نفسها تستغلّ الفرص وتَمشي مع تيَّار “نحن مع الأقوى”، وقد تنقسم على نفسها؛ يقول سيرجيو فلامينيي، رئيس اللجنة البرلمانيَّة الإيطاليَّة للتحقيق في الماسونيَّة: “كان للماسونيَّة دور على الدَّوام في التاريخ السياسي الإيطالي، فعندما ظهر الخطَر الفاشي في إيطاليا، انقسمت الماسونيَّة على نفسها، وساند جزءٌ منها الفاشية، ولم تقِف الماسونية في طريق الفاشية، بل إنَّ جانبًا كبيرًا منها الَّذي كان يرتبط بميدان “جيزو” وقف إلى جانب موسولينا، بل رشَّحه مايسترو شرفيًّا كبيرًا، وبالتَّالي ساهموا في صعود الدكتاتوريَّة في إيطاليا”[16].

• اليهود في العالم خارج الأراضي الفلسطينيَّة المحتلَّة أضعاف القابعين في الأراضي المحتلَّة، فلو كان للصهْيونيَّة النفوذ حتَّى على الماسونية العالميَّة، والتحكُّم في مصائر أمم بكبارها وذرّيَّتهم؟ ألا يسعهم لمْلمة شرذمة من عرقهم من بقاع الأرَضين السبع، وحشْرهم في تل أبيب أجمعين؟
أليس هذا أدعى لهم؛ كيما ينحروا فزَّاعة النمو الديمغرافي للفلسطينيّين؟ فأين القوَّة الخفيَّة التي لا يردّ لها أمر، ولا معقب على قولها؟

بل الماسون الآن بعد أن تخلَّوا – شيئًا ما – عن عقليَّة السرّيَّة المطبق، يتبرؤُون من تهمة المؤامرة الصهْيونية[17]، فهم يعلمون أنَّها حفرت في الأذهان صورة الشَّرّ المطلق، ولا يلزمنا هنا تصديقهم، بل الكلام من الأستاذ الأعظم للمحفل الماسوني بالولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، يرمي إلى وعيهم أنَّ “فكرة الماسونية” أدْعى للفبركة والقبول لدى العامَّة من “فكرة الصهيونية”، فالماسونيَّة على قبحها قابلة للعمليَّات التجميليَّة، أمَّا الصهيونيَّة فبشاعتها لا تتطلَّب إلاَّ الاستِنْساخ فقط.

الهيكل التَّنظيمي الماسوني:
لاستِيعاب الطَّرح أكثر، نعرض الهيكل التَّنظيمي للماسونيَّة، وينبغي أن نتفهَّم أمرًا مهمًّا خلال دراستِنا لهيكلة المراكز الماسونيَّة، وهو إعمال الماسونيَّة لمبدأ الانتِخاب الطَّبيعي، فكلَّما انتشرت طبقة من تلك المراكز، بحيثُ تكون جماهيريَّة، توجَّب على كبار الماسونيّين إنشاء طبقة نخبويَّة مختارة من تلك المراكز، بحيث تكوِّن طبقة أعْلى منها، وأحيانًا يكون الإحداث بالعكس كإنشاء النَّوادي الماسونية.

1- النَّوادي الماسونية: “أندية الروتاري” للتَّجنيد، وأوَّل نادي للروتاري أسِّس في مدينة شيكاغو في سنة 1905م على يد المحامي بول هاريس، ويتمّ اختيار الماسونيين من خلال الاختِيار من بين أعضاء هذه النَّوادي، والذين يكونون من الطبقة الثَّريَّة أو الطبقة المثقَّفة، حيث تبثّ من خلالها عبادة الشَّيطان، وجميع الممارسات الشَّيطانيَّة، كحفلات الجنس الجماعي والرَّقص الشَّيطاني المصاحب بالأجساد العارية، والألوان الشَّيطانيَّة الفاقعة، كالأحمر والأصفر، وأحيانًا الأسود، وغير ذلك، ويختار أعضاء هذه النَّوادي من الطبقة الغنيَّة أو المثقَّفة، وتسمَّى تلك الأندية بأندية الروتاري.

كما أنَّ هناك عددًا من الأندية تُماثل الروتاري فكرًا وطريقة، وهي: الليونز، الكيواني، الاكستشانج، المائدة المستديرة، القلم، بناي برث (أبناء العهد).

فهي تعمل لنفس الغرض وبنفس الصورة، مع تعْديل بسيط وذلك لتنويع الأساليب التي يتمّ بواسطتها بثّ الأفكار واجتِلاب المؤيّدين والأنصار.

2- المقرَّات الماسونيَّة فرعيَّة: ويكون أعضاؤُها من باقي الماسونيّين غير الخبراء، وهي أكثر من المقرَّات الماسونيَّة العظمى.

3- مقرَّات الماسونيَّة العظمى: للخبراء، حيث إنَّ هناك مقرَّات تقبل فقط عضويَّة الماسونيّين الواصلين إلى مرحلة الخبير (النورانيون)، مثل المقرّ الأعظم في بريطانيا الَّذي تأسَّس عام 1717 وهو الأقدم، ويطلق على رئيس هذا المقرّ تسمية الخبير الأعظم Grand، وهذا المقرّ شبيه إلى درجة كبيرة بحكومة مدنيَّة، وجميع الفروع الماسونيَّة في العالم تعتبر المقرَّ الأعظم في بريطانيا كمرجع أعلى لها ثمَّ تلاه المقر الأعظم في فرنسا عام 1728.

4- محفل الشرق الأكبر للنورانين: للنخبة، وهم النورانيّون، كما توجد مقرَّات سرّيَّة أخرى للنورانيّين.

5- الماسونية الكونية: وهي قمَّة الطبقات، ولهم صلاحيات تعْديل الدستور الماسوني.

6- جمعيَّة الجمجمة والعظام: ظهرت في الولايات المتَّحدة؛ وهي لأبنائهم المتنفِّذين الذين لا تؤهِّلهم مداركهم للدخول في الماسونيَّة الكونية – بحيث يتحكَّمون في الدستور الماسوني – مع أنَّهم يُعدُّون لاحتِلال مناصب مهمَّة، عند ذلك رأت الماسونيَّة إحداث هذه المرتبة الماسونية، لإعداد الأجيال الماسونيَّة المتنفِّذة، أسّست عام 1830في جامعة “ييل”.

في المراتب تلك يمثل النورانيون قمَّة الهرم، وهم الرَّئيس المدبّر، ولا يعلو عليهم أحد، والنورانيّون لم يكونوا بادئ الأمر ماسونيّين؛ إذ أفكار الماسونية لم تكن على ما هي عليه إلاَّ بعد انضمامهم.

وننوّه على أنَّ للماسونيَّة طوائف ومدارس وتيَّارات وليست كتلة واحدة، وكذلك الصهْيونية، وإن كان البعض يحكي عنهم كأنَّما يتكلَّم عن كتيبة، أو نادٍ للمراهقين من بضع أفراد، بل لها توجُّهات متنوّعة، وفيما بينها تقاطعات.

أمَّا من يدعي أنَّ الماسونيَّة والصهيونيَّة “وجهان لعملة واحدة” بل يزْعُم أنَّ اليهود لا فرق بينهم، وهم على فكر وعقيدة واحدة، فهو يخالف الواقع والتَّاريخ وسنن تكون المجموعات، بل ويصادِم النَّصَّ القرآني والحديث النبوي، وعذْرُه عندنا حميَّة زائدة وإفراط في المشاعر دون برهان، بغية القذف بالكلِّ في سلَّة واحدة، وعجب لقولهم لِمن يُثبت العكس: إنه يمالئ اليهود، وبيان ذلك:
دأب اليهود على الظُّهور بصورة كتلة على قلْب رجل واحد، وهو من أكبر شعارات الصهيونيَّة اليهوديَّة القوميَّة، ولا أرْمي أحدًا من المسلمين القائلين بهذا بأنَّه على رأيهم أو خدع، بل لكلامه دوافع، ولدعاويهم مرامٍ قذرة.

وما يدحض هذا: أنَّ اليهود فرق وطوائف متناحِرة، وقبائل وأجناس متصارِعة، حتَّى في ظلّ دولة الاحتِلال بالأراضي المقدَّسة، فالصراع جليّ بين السفارديم الشَّرقيِّين والإشكيناز الغربيِّين، وبين المؤسَّسات الدينيَّة، بل من الفرق اليهوديَّة مَن يكفِّر ويُعادي الماسونيَّة والصهيونيَّة.

والباحث في تاريخ الأدْيان والمذاهب الوضعيَّة لن يجد قط أتْباع دين وضعي يقوون على مذهب ثابت عبر السنين، فما بالك عبر قرون، ولو طلع على النَّاس مَن يدَّعي الألوهيَّة لوجد من يتبعه!

أمَّا مخالفة نصّ الوحي، فحديث افتراق اليهود والنَّصارى والأمَّة الإسلامية، وهو صحيح، وأجلّ منْه آيُ القرآن عن اليهود: {تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً} هذا ما تظهره اليهودية والصهيونية {وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى} [الحشر: 14]، وهذا ما هُم عليه، وهي سيرتهم وسجيَّتهم بين ظهراني الأمم المخالفة لهم.

ختام المقال:
الماسونيَّة منظَّمة دينيَّة شيطانيَّة، نشأت قبل الصهيونيَّة على يد النَّصارى في ظلّ الجو العلماني الَّذي بدأ يكتسح أوربَّا، وهي من المؤسَّسات الفكريَّة الدَّاعية لتحطيم الأدْيان كلها، وعبادة الذَّات.

والصهيونيَّة قوميَّة يهوديَّة محْضة، لها باع في التَّعامل مع الماسونيَّة، والقول بأنَّها تسيرها يحتاج لتمهُّل؛ فالماسون لهم إمبراطوريَّة عظمى وهي الولايات المتَّحدة الأمريكية، وللصهْيون دولتهم الاحتِلاليَّة الصغيرة، وإن قال أحد: إنَّ (إسرائيل) تُسير أمريكا، فهل الصَّغير الحقير يسيِّر العملاق؟ كلّ ما أورد في هذا الطَّرح تخمينات لا بيانات ولا دراسات علميَّة، بل هي من تبرِئة الجاني وتحْويله لضحيَّة، فأمريكا هي الرَّابح منهم، وليسوا غير خدمٍ لها، وإن كان لما يرى من تقرُّبهم لليهود، فهو من أصول العقائِد البروتستانتيَّة لا اليهوديَّة، كما أنَّ بعض المحافل اليهوديَّة ماسونيَّة، وعدوُّهما واحد؛ فلمَ لا يتحالفان؟

والمقال لا يسع إقْحام هذا الموضوع هنا.

والماسونيَّة داعمة للصهيونيَّة في جملة من مشاريعها القوميَّة، وبينهما تقارُب من حيث الدَّعوة للعلمانية، وبناء هيْكل سليمان، وعداء المسلمين، فليس كلّ الماسون صهاينة، ويُمكن أن يكون جلّ الصهاينة ماسونيين، والإحصاء هنا صعب فكلّهما منهجه سري، ويوجد ماسونيات عدَّة، كما يوجد تيَّارات صهيونيَّة متعدّدة.

فكرة الماسونيَّة والصهيونيَّة ليست نتاجًا يهوديًّا وإن تعلَّقت بهم بعد حين لملابسات عدَّة، منها تكالُبُهم على المسلمين والعرب؛ يقول مارتن شورث مؤلّف “الماسونيَّة داخل الأخوة”: “أعتقِد أنَّ الماسونية في العالم الثَّالث بشكل عامّ – وفي البلاد العربيَّة بشكل خاص – كانت ولا تزال أحد أذرُع الإمبرياليَّة الغربيَّة، لقد كانت أشبه بالقرد على ظهر الجيش البريطاني، وكذلك قوى الاستعمار الفرنسية”.

وكثرت الرموز التوراتيَّة المتداولة في محافلهم، وإن كان لهم رموز غيرها، بل ممَّا يعتقد أنَّه يهودي أصله من الحضارات القديمة، يقول أستاذ التَّاريخ بجامعة غولدن سميث جون شو: “أعتقد أنَّ للرموز جذورًا مختلفة ومعقدة، ولها أساسًا أربعة مصادر أحدُها الكتاب المقدس؛ ولذلك ترتبط باليهوديَّة لأنَّ العهد القديم كتاب يهودي”.

ـــــــــــــــــــ
[1] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبدالوهاب المسيري: ج1، ص29.
[2] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبدالوهاب المسيري: ج 15، ص 286.
[3] المصدر نفسه: ج15، ص 292.
[4] المصدر السابق: ج15، ص 293.
[5] أرشيف ملتقى أهل الحديث – 3 – ج20، ص 406.
[6] الماسونية: حصة سري للغاية، يسري فودة، قناة الجزيرة الفضائية.
[7] تعاون الصهيونية مع الجاستابو – جهاز المخابرات النازية لإبادة اليهود – من المتعارف عليه لدى المهاجمين لها من اليهود والعرب والمسلمين، أي من المعادين والمحايدين، وكان هدف الصهيونيَّة إجبار اليهود على الفرار نحو الملاذ الآمن في الأراضي الفلسطينيَّة.
[8] هكذا ورد المصطلح في الموسوعة.
[9] موسوعة اليهود واليهوديَّة والصهيونية، عبدالوهاب المسيري: ج1، ص282.
[10] تحريف الكتاب المقدس: ج1، ص 52.
[11] موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، عبدالوهاب المسيري: ج15، ص 312.
[12] والأصح تسميتها: الدعوة السلفية، وإن أراد النسب فتكون” الدعوة المحمدية” لأنَّ الإمام اسمه محمَّد بن عبدالوهاب.
وإن تنطَّع؛ فالوهابيَّة هنا مردها لاسم الجلالة “الوهاب”، فكلا الحالتين مدح لها.
[13] يقال “تاريخ المسلمين” وليس “تاريخ الإسلام”، لأنَّ النقال كله عن حضارتهم، لا عن الدين، فما ورد من سقطات وزلات تنسب للأتباع لا للإسلام، فالدين عقيدة ثابتة لا متغير بأصولها، والتاريخ يحكي أفعال البشر وسلوكياتهم وإنجازاتهم وتطوراتهم الفكرية، وما مسَّ المسلمين من تحوّل وتطورات يشمل عقيدتهم لا الإسلام؛ إذ الدين أصل ثابت، والمتديّن يأخذ منه كل بقدر ما أدرك، وكل يطبق ما قدر عليه.
راجع “المناهي اللفظيَّة” للعلامة بكر أبو زيد.
وشريط “طالب العلم والتاريخ” لسماحة الشَّيخ العلامة سمو الوزير صالح آل شيخ.
[14] عقيدة اليهود في الوعد بفلسطين، لمحمد آل عمر: ص213.
[15] المصدر السابق: ص213.
[16] الماسونية: حصة سري للغاية، يسري فودة، قناة الجزيرة الفضائية.
[17] الماسونية، حصة سري للغاية، يسري فودة، قناة الجزيرة الفضائية.

أضف تعليق